اقتربت الساعة من الثامنة مساءً
وهو عادةً يصلُ في موعدهِ.. وقفت أمام المرآة تُعدِّلُ من هيأتِها وتأملت
زينَتَها وخاصةً خطوط الكحل الأسود بلونِ عينيها والذي طالما أبدى إعجابه
به وشبّهه بإطار غامض يحيط بلوحة حزينة وكانت كلمة "حزينة" تحيرها أكثر
مما تقلقه
رفعت يدها اليمنى لتعيد خصلة جامحة من شعرها الذي يغطي ظهرَها إلى
مكانِها.. فوقعت عيناها عليها.. انها الدبلة الذهبية التي تحيط بإصبعها..
ولا تدري لماذا باتت تشعرُ بالاختناق كلما رأتها وكأنها تُحيطُ بعنقِها
وليس بإصبعِها.. وشعرت في هذه اللحظة برغبة شديدة في التخلص من هذا القيد
ولو لدقائق
وبالفعل جذبت الدبلة من إصبعها وألقت بها أمام المرآة.. وتذكرت كم حاولت
الفرار من هذا القيد وتمكنت بذكائها من الخروج من مأزق الخطبة والارتباط
بأي شخص يتقدم للزواج منها
*********
كانت – وبشهادة الجميع – رقيقة مرحة ودودة ذكية.. بها الكثير من الصفات
التي كانت تسحر القلوب وتجذب كل من يتعامل معها وتحمله على طلب يدها..
ولكنها ورغم يقينها من صدق مشاعر كل هؤلاء كانت تبتعد وتختلق الأعذار
والأسباب الواهية لترفض
ومرت بها السنوات وألقتها بعيداً عن أجمل أيام الشباب وتخطت الثلاثين..
ولكن بقيت ملامحها الطفولية تنبئ عن قلب يفيض شباباً وبراءة وروح مفعمة
بالحياة.. وظلت تنأى بنفسها عن ذلك القيد الذهبي بقدر استطاعتها.. وهي
تُحاول في أعماقِها البحثَ عن السببِ وراء هذا الرفض الغير مُبرَّر
للارتباط لكنها كانت دائماً تفشل في معرفته.. حتى ألقت بها الأيام في
مواجهته في حفل زفاف إحدى قريباتها التي كانت تصغرها بأعوام كانت تخجل من
تذكرها.. وكان هو صديقاً للعريس.. وكان التعارف بينهما سريعاً ودوداً وبلا
تكلف
وبعد أن نصحها بتحويل كل تعاملاتها البنكية - البسيطة – إلى البنك الذي
يعمل به لكي يستطيع تقديم خدماته.. تعددت اللقاءات والمكالمات الهاتفية..
كانت تتحدث إليه بألفة وبساطة رغم قلقها من اعتيادها على وجوده في حياتها
وضيقها الشديد كلما باعدت بينهما ظروف طارئة.. فقد أصبحت تراه جزءاً من
حياتها اليومية، لا يجبُ أن يمرَ اليومُ بدون أن تراه أو تتحدث إليه
حتى كان ذلك اليوم.. وقالها: أحبُكِ.. ولا أستطيع الاستمرار في هذه
الصداقة الباردة فانا أحبك ولا أتمنى في هذه الحياة سوى الزواج بكِ
استمعت إليه وقلبها ليس في مكانه المعتاد بل هو هناك بعيداً يحلق في سماء
لم ترها من قبل.. وعقلها يدور حول نفسه ويرتطم بجدران صلبه تحيطه من كل
جانب
همست في خجل: وفارق السن؟
أجابها في ثقة: بالنسبة لي لا يهمني وإن كنتِ تكبريني بعشرين عاماً.. فأنا
أحب الملاك الذي يقف أمامي الآن وليس رقماً مقيداً في بطاقة شخصية
لمعت عيناها بدمعة كسيرة وهي تقول: وهل تعتقد أن عائلتك سوف ترحب بزواجك من عروس تكبرك بكل هذه الأعوام؟
علا صوته فجأة وهو يقول: ياالله.. كل هذه الأعوام .. تقولينها وكأنها مئات السنين
وأمسك يدها برفق وأكمل حديثه: إنها بضعة أعوام لا تتعدى أصابع اليد الواحدة.. أما عن عائلتي فأنا كفيل بإقناعهم
وافقت.. لكنها كانت وما تزال تتساءل لماذا وافقت..؟ هل هي تحبه...؟ وهل من يحب يشعر بكل هذه الحيرة..؟
*********
وتقدم لخطبتها واستطاعت بعد عناء إقناع عائلتها به.. وتخيلت أنه هو الآخر
قد أقنع عائلته.. وكان لقاء الأهل للخطبة يومٌ غريبٌ يخيم عليه الوجوم..
وعيون والدته وأختَيه تنطق بالرفض والتبرم
لكنه كان سعيداً.. فانتقلت إليها عدوى السعادة وظنت أنها سعيدة
وتعددت اللقاءات الأسرية وتتابعت هجمات والدته وأختيه.. وتبارت كل منهن في
إلقاء التعليقات اللاذعة عن أعمار الفتيات في العائلة وكيف تزوجن وأنجبن
وهن في ريعان الصبا.. وغيرها من القصص الحقيقية وحتى الملفقة عن تكافؤ
السن بين الرجل والمرأة والتي كانت سياطاً تلهب روحها دون أن يشعر بها أحد
كانت على يقين من أنه يسمع منهن الكثير أيضاً لأنه.. في نظرهن.. قد أساء الاختيار
حتى كانت الطامة الكبرى منذ عدة أيام عندما علمت من ابنة إحدى أختيه.. وهي
طفلة في السادسة من عمرها.. أنهن في عائلته يطلقن عليها اسم: شفاعات
إنه اسم بطلة فيلم شباب امرأة -
قالتها وهي تبذل مجهوداً جباراً لتمنع سيل الدموع من إعلان هزيمتها..
وطالبته بإنهاء هذه المهزلة فعليه أن يواجههن ويطالبهن بالتوقف عن جرح
مشاعرها وإجبارهن على احترامها والتخلي عن التلميحات السخيفة وأن عليه أن
يكون قوياً في مواجهتهن و.... و
وهالها بعد كل ما ذكرته من ألوان الإساءة إليها ما رأت منه من هدوء وبرودة
أعصاب بل وتخاذل أيضاً.. فلم يتعد رده عن إخبارها أن عليها أن تتحملهن
فهذه هي طريقتهن الريفية في التفكير وهو لا يستطيع تغييرها وكل العبء يقع
عليها في إرضائهن وأن عليها أن تكن أقـوى وأكبر من هذه الصغائر
ولم ينس أن يذكرها في نهاية حديثه أنها سوف تقيم في شقة في منزل كبير يضم
العائلة بأكملها.. وهو لا يحب الشجار ولا يريد أن يقضي عمره في فض نزاعات
تافهة فهي منذ أول أيام الخطبة ولا يكاد يمر لقاء لهما دون أن تشكو له من
تصرفات عائلته وهو بدأ يضيق بهذا الأمر
تركها وانصرف ولم يتصل بها حتى صباح اليوم حين أخبرها في مكالمة مقتضبة أنه سوف يأتي لزيارتها في الموعد المعتاد
*********
أفاقت من ذكرياتها على صوت دقات الساعة تعلن الثامنة
نظرت مرة أخرى إلى المرآة ولم تهتم بإعادة رسم الكحل الذي لم يعد له أثر في عينيها بعد أن سقط مع الدموع التي غسلت عينيها وروحها
وصل إلى مسامعها صوت والدتها وهي ترحب به وتسأله عن صحة والدته.. خرجت إليه وهي تحاول أن ترسم ابتسامة على شفتيها لكنها فشلت
ألقت عليه التحية فردها بفتور واضح.. واستأذنت والدتها منه ودخلت إلى
حجرتها.. خيم الصمت عليهما لدقائق ولم تجد ما تفعله غير أن تعبث بالدبلة
كما اعتادت كلما شعرت بالملل.. لكن يدها تسمرت فجأة عندما اكتشفت أنها
نسيت أن تعيدها إلى إصبعها.. ولا تعلم لماذا تمنت أن ينتبه إلى يدها
ويراها خالية.. وكأنه كان يتابع ما تفعله ويشعر بما يدور بخلدها..
فبادرها: أرى أنك توصلت إلى نفس القرار الذي توصلت إليه
للحظة لم تفهم ما يقصد لكن عيناها كانت أسرع من عقلها فاتجهت بتلقائية إلى يده اليمنى.. فلم تجدها.. لم تجد دبلتها في اصبعه
هل هذا ما يقصد..؟
هل هذا هو القرار..؟
نظرت إلى عينيه فرأت دموعها تملأ عينيه.. إنها نفس دموع الحيرة والتساؤل التي أغرقتها منذ دقائق
تركها وانصرف.. ومازالت دموعها تتساءل من كان الطرف الأضعف في هذه العلاقة؟
هل كانت هي..؟
أم كان هو..؟
أم أن الطرف الأضعف كان هو.. الحـب؟